يواجه العالم اليوم تحديًا غير مسبوق مع تصاعد الديون العالمية إلى 315 تريليون دولار، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي، وهو رقم يصعب تخيله أو استيعابه. ولفهم حجم هذه الديون، يمكننا مقارنتها بالناتج المحلي الإجمالي العالمي لعام 2024، الذي بلغ 109.5 تريليون دولار فقط، بعبارة أخرى، إجمالي الديون يعادل 3 أضعاف حجم الاقتصاد العالمي.
وإذا قسمنا هذا الدين على سكان العالم البالغ عددهم حوالي 8.1 مليار شخص، فإن نصيب كل فرد سيكون حوالي 39,000 دولار. وتنقسم الديون العالمية إلى ثلاثة أنواع رئيسية، هي ديون الأسر، وديون الشركات، وديون الحكومات، وتشمل ديون الأسر، القروض الشخصية مثل الرهون العقارية، وقروض التعليم، وبطاقات الائتمان، وقد بلغت قيمتها في بداية عام 2024 حوالي 59.1 تريليون دولار.
أما ديون الشركات، فبلغت نحو 164.5 تريليون دولار وتستخدمها لتمويل عملياتها وتوسيع أنشطتها، ويستأثر القطاع المالي بنحو 70.4 تريليون دولار، ووصلت ديون الحكومات إلى 91.4 تريليون دولار وتمول بها الخدمات العامة والمشروعات الكبيرة دون الحاجة إلى رفع الضرائب.
كيف تراكمت هذه الديون؟
منذ خمسينيات القرن الماضي، شهد العالم أربع موجات رئيسية من تراكم الديون، الأولى بدأت خلال ثمانينات القرن الماضي في أميركا اللاتينية حينما اضطرت 16 دولة لإعادة هيكلة ديونها. الموجة الأولى من تراكم الديون نشأت في أمريكا اللاتينية خلال 1980، حيث اضطرت 16 دولة في تلك المنطقة إلى إعادة هيكلة ديونها نتيجة الأزمات المالية والاقتصادية التي واجهتها. أما الموجة الثانية، فقد أثرت بشكل رئيسي على جنوب شرق آسيا مع بداية القرن الـ21، حيث تعرضت دول تلك المنطقة لضغوط اقتصادية كبيرة بسبب التغيرات في الأسواق المالية.
وتسببت الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2008 في بدء الموجة الثالثة وتراكم ديون الولايات المتحدة وأوروبا، حيث واجهت المؤسسات المالية الكبرى انهيارات واسعة النطاق أثرت على الاقتصادات العالمية. نحن الآن في خضم الموجة الرابعة من تراكم الديون، والتي بدأت في عام 2010 وتفاقمت مع انتشار جائحة كوفيد-19.
ودفعت هذه الأزمة الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى زيادة مستويات الاقتراض بشكل كبير لدعم الشركات والمواطنين في مواجهة تداعيات الإغلاق والركود الاقتصادي الناتج عن الجائحة. بحلول عام 2020، وصلت نسبة الديون العالمية إلى 256% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ارتفاع بمقدار 28% خلال عام واحد فقط، ما يمثل أكبر زيادة سنوية في مستويات الديون منذ الحرب العالمية الثانية.
هل كل الديون سيئة؟
رغم أن الديون قد تبدو أزمة، إلا أنها تلعب دورًا حيويًا في دفع عجلة الاقتصاد، فعلى المستوى الفردي، تتيح الديون للأشخاص الحصول على التعليم أو شراء المنازل. وبالنسبة للشركات، تمكّنها من التوسع والنمو، أما الحكومات، فتستفيد منها في بناء البنية التحتية أو الاستجابة للأزمات الاقتصادية. لكن هذا الدور الإيجابي يأتي مع مخاطر إذا زادت الديون عن الحدود الآمنة، فالديون العامة، على سبيل المثال، كانت موجودة منذ آلاف السنين.
تاريخيًا، استخدمت الحكومات الديون لتأسيس المدن والدول وتمويل الحروب. في القرن التاسع عشر، تراكمت الديون بسبب الحروب الكبيرة مثل الحروب النابليونية والحرب الأهلية الأميركية، وكانت الحرب العالمية الثانية الحدث الأكثر تكلفة في التاريخ، وتركت العديد من الدول غارقة في الديون، خاصة تلك التي استدانت من الولايات المتحدة.
موجات تراكم الديون.. متى تصبح الديون غير مستدامة؟
الديون تصبح غير مستدامة عندما تعجز الجهة المدينة، سواء كانت فردًا أو شركة أو حكومة، عن تحمل تكاليفها. وفي حالة الحكومات، هذا يعني تقديم تنازلات كبيرة في مجالات حيوية مثل التعليم أو الصحة فقط لسداد الديون، وأبرز مثال على ذلك هو زامبيا، التي خصصت في عام 2021 حوالي 39% من ميزانيتها الوطنية لخدمة الديون، ما أثر سلبًا على قدرتها على الاستثمار في قطاعات التعليم والصحة والمياه والصرف الصحي.
وتعد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي هي المؤشر الأساسي الذي يُستخدم لقياس مدى تحمل الدول لعبء ديونها، فإذا كان هناك دولتان عليهما ديون بقيمة 30 مليار دولار، فإن التأثير يعتمد على حجم اقتصادهما، فدولة اقتصادها بحجم 30 مليار دولار ستكون في موقف أصعب بكثير من دولة اقتصادها بحجم 30 تريليون دولار.
الفوارق بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة
الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان تسهم بالنصيب الأكبر من الديون العالمية، حيث تمثل حوالي ثلثي الديون الإجمالية. ومع ذلك، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في هذه الاقتصادات بدأت في الانخفاض، فاليابان، على سبيل المثال، تعد واحدة من أكثر الدول مديونية في العالم، حيث تبلغ ديونها أكثر من 600% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع ذلك، تظل قادرة على إدارة هذا الدين نظرًا لحجم اقتصادها. على الجانب الآخر، الأسواق الناشئة مثل الصين والهند والمكسيك شهدت ارتفاعًا في ديونها لتبلغ 105 تريليونات دولار، مع تسجيل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي رقمًا قياسيًا عند 257%.
ما هي المخاطر؟
الموجة الحالية من تراكم الديون هي الأكبر والأسرع انتشارًا منذ الحرب العالمية الثانية. وحتى الآن، ساعدت السياسات المالية والتنظيمية في تجنب أزمة شاملة. ولكن، مع هذا المستوى الهائل من الديون، يظل خطر التخلف عن السداد قائمًا، خاصة في ظل احتمالات تقلبات اقتصادية مثل ارتفاع قيمة الدولار أو اندلاع حروب تجارية. مع استمرار تصاعد الديون، يبقى السؤال: كيف يمكن للعالم أن يواجه هذا التحدي ويضمن استدامة اقتصاده في المستقبل؟.