لا بد أنّك صادفت إحدى لقطات المصور الأمريكي المحترف، غريغوري كرودسون، بنطاقها الواسع وألوانها المشابهة باللوحات الزيتيّة. وقام كرودسون بإغلاق مناطق من بلدات صغيرة، وبناء منصات ذات ديكورات داخلية غامضة للمنازل بهدف الوصول إلى ما يختبئ تحت واجهة الضواحي الأمريكية، مسلطًا الضوء على منظورٍ مزعج لأمريكا.
وتشمل مشاريعه التي تستغرق أسابيع على طاقم عمل كامل، ويمكن مقارنتها بالأفلام المستقلّة القصيرة، إضافةً إلى عملية اختيار ممثلين يبعثون مشاعر الكآبة. وعندما كان طالب دراسات عليا في الفنون الجميلة للتصوير الفوتوغرافي بجامعة ييل، قام كرودسون بتصوير ما يمكن أن يجده في منازل في ولايتي كونيتيكت وغرب ماساتشوستس، وتوجيه العائلات لتمثيل مشاهد تبعث مشاعر القلق وعدم الارتياح.
وقد قام ببناء مجموعات غريبة من تماثيل حيوانات خاصة لتزيين الطاولات تشبه ما يمكن العثور عليه في المتاحف، كما أنّه جعلها تبدو أكبر من الواقع. ومن أجل صوره للمناظر الطبيعية للبلدات الصغيرة، استخدم المصور رافعة ليرتفع فوق مستوى أسطح المنازل.
واستذكر كرودسون العمليات، وقال: "كان الأمر أشبه بالغرب المتوحّش إلى حدٍ ما، فكان لدينا عدد قليل جدًا من التراخيص أو التصاريح. وكنّا نرتجل فحسب، وكان الأمر مثيرًا للغاية". وبعد مرور 3 عقود، يتأمل كرودسون في جميع أعماله مع افتتاح معرض كبير في متحف "ألبرتينا" في فيينا، حيث يعرض سلسلته الكاملة معًا لأول مرة.
وتشمل أعماله عرضًا يجمع مسعاه الكبير الذي استمر 8 سنوات بعنوان "تحت الورود" (Beneath the Roses) من منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وصوره السابقة بالأبيض والأسود ذات الميزانية المنخفضة من عام 1996، وعودته التأملية إلى التصوير الفوتوغرافي بعد خوض فترة طلاق صعبة في عام 2013، في عمل بعنوان "كاتدرائية الصنوبر" (Cathedral of the Pines).
وقام أمين المعرض، والتر موسر، بتأطير المعرض حول حوار كرودسون الطويل مع السينما، بما في ذلك مصادر إلهامه، ومنهم ستيفن سبيلبرغ، وألفريد هتشكوك. وعندما بدأ كرودسون مسيرته المهنية، كان المصور من بين مجموعة مصورين ينتمون إلى حركة "ما بعد الحداثة"، الذين كانوا مهتمين بصناعية التصوير الفوتوغرافي، وغالبًا ما طمسوا الحدود بين الحقيقة والخيال.
وأشار موسر إلى أنّ هؤلاء المصورين "يقومون بتحليل كيفية إدراكنا للواقع، وكيف يُبنى الواقع في التصوير الفوتوغرافي". وأضاف موسر أنّ أعمال كرودسون منظّمة بالكامل، ويتم فيها التفكير بكل التفاصيل. كما أنها بمثابة فيلم وثائقي، بمعنى أنّه يعكس حالة المجتمع حقًا".
بيئة شديدة الواقعية
مثّلت الرغبة والعزلة الأسس التي بُنيت عليها الضواحي في عالم كرودسون، الذي وصفها بكونها تقع "خارج نطاق الواقع جزئيًا". وتضم صوره النهائية تراكيب وإطارات متعددة، ما يسمح لكل جزء من الصورة بأن يكون دقيقًا، ويجعلها تبدو "واقعية للغاية"، وفقًا لموسر. ومع أنّ أعمال كرودسون تغطي التحولات المجتمعية، التي شملت الاستقطاب السياسي، ووباء الوحدة، والتدهور الريفي، إلا أنّه يمتنع عن الإدلاء بتعليقات محددة.
السعي وراء السكون
ويعترف كرودسون بأنّ العديد من مواضيع التصوير التي عاد إليها مرارًا وتكرارًا، بما في ذلك الشعور "بالحضور والغياب" تعد بمثابة انعكاسات لحالته النفسية. وكان لرغبته في لحظة من السكون آثار أوسع في حياته الخاصة. وقال كرودسون :"نحن نعيش حياتنا في حالة من الفوضى الجزئية، هناك الكثير من الأمور التي تزعزع استقرار الحياة، وأنا أشعر بالكثير من القلق يومًا بعد يوم، وهذا شرط للبقاء على قيد الحياة فحسب". كما أضاف: "أعتقد أنّ جزءًا من سبب انجذابنا إلى الفن بشكلٍ عام هو الشعور بالنظام أو المغزى نوعًا ما. ومع أنّ صوري قد تبدو بائسة أو حزينة، إلا أنّ هناك لحظة يجتمع فيها كل شيء معًا، ويبدو الأمر منطقيًا".