عقب حياة حافلة بالإنجازات الدبلوماسية، فارق هنري كيسنجر الحياة يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 عن عمر ناهز المئة عام. وأثناء مسيرته، تقلد الأخير مناصب هامة حيث شغل منصب مستشار الأمن القومي ما بين عامي 1969 و1975، وحصل ما بين عامي 1973 و1977 على منصب وزير الخارجية. وأثناء مسيرته على رأس وزارة الخارجية، عاصر كيسنجر العديد من النزاعات كحرب فيتنام والحرب العربية الإسرائيلية عام 1973.
بدايات كيسنجر على رأس وزارة الخارجية
خلال شهر أيلول/سبتمبر 1973، أنهى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مهام وزير خارجيته وليام روجرز (William P. Rogers) وعيّن بدلا منه، يوم 22 من نفس الشهر، هنري كيسنجر الذي شغل في تلك الفترة منصب مستشار الأمن القومي. وبعد مضي أيام عن توليه لهذا المنصب الجديد، تابع كيسنجر عن كثب يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973 بداية الهجوم المصري على المواقع الإسرائيلية بسيناء المحتلة. وخلال الأشهر التي سبقت الحرب، عمد الرئيس المصري أنور السادات لإنهاء مهام عدد من المستشارين العسكريين السوفيت بمصر واتجه للتقرب من الأميركيين. وبتلك الفترة، آمنت واشنطن بإمكانية خروج مصر من دائرة النفوذ السوفيتي وتحالفها مع الأميركيين في سياق الحرب الباردة. ومع عدم تلقيه لعرض أميركي واضح حول استعادة سيناء، استدعى السادات مجددا المستشارين العسكريين السوفيت واتجه في الآن ذاته لإبرام صفقات تسلح مع موسكو. إلى ذلك، أثارت هذه الأحداث حالة من التخبط بالخارجية الأميركية التي لم تتمكن من فهم الموقف المصري وسياسة التحالفات المصرية بالمنطقة.
ومع اندلاع الحرب وبداية الهجوم المصري المباغت، اتجه هنري كيسنجر لإطلاع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون حول مجريات الأحداث بعد مضي ثلاث ساعات عن بداية التدخل المصري. وقد حاول كيسنجر بتلك الفترة إجراء اتصالات بكل من القاهرة وموسكو لبحث وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب منذ الساعات الأولى. وفي الأثناء، كللت جهوده بفشل ذريع. يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر 1973، انطلق كيسنجر نحو موسكو للقاء القائد السوفيتي ليونيد بريجنيف. وفي الأثناء، منح نيكسون كيسنجر الصلاحيات الكاملة للتفاوض باسم واشنطن حول الحرب العربية الإسرائيلية. وأثناء المفاوضات، حاول كيسنجر التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار مؤقت أملا في منح إسرائيل مزيدا من الوقت لتنظيم صفوفها وشن هجوم مضاد واسع.
كيسنجر خلال حرب 1973
أثناء لقائه رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا ماير، وعد كيسنجر بتعويض الإسرائيليين عن جميع خسائرهم من العتاد العسكري حال نهاية الحرب. وفي الأثناء، طالبت غولدا ماير بمساعدات عسكرية عاجلة بقيمة 850 مليون دولار. وبدلا من ذلك، عمد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لإقرار مساعدات عسكرية هامة لإسرائيل تجاوزت قيمتها ملياري دولار. أثار القرار الأميركي غضب المملكة العربية السعودية. وكرد على ذلك، أقر الملك فيصل حظرا نفطيا على الدول الداعمة لإسرائيل بالحرب.
يوم 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1973، توجه كيسنجر نحو المملكة العربية السعودية. وأثناء لقائه بالملك فيصل، وعد وزير الخارجية الأميركي باعتماد سياسة أكثر عدلا بالنزاع العربي الإسرائيلي. وعلى الرغم من هذه الوعود، رفض الملك فيصل ما جاء به كيسنجر ليتواصل الحظر النفطي لحدود شهر آذار/مارس 1974. ضمن ما وصف بالدبلوماسية المكوكية، تنقّل كيسنجر ما بين عامي 1973 و1974 بشكل مكثف بين كل من تل أبيب والقاهرة ودمشق أملا في التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار وسلام دائم. وخلال أول زيارة له لدمشق، اجتمع كيسنجر لأكثر من 6 ساعات بالرئيس السوري حافظ الأسد. وبسبب طول مدّة الاجتماع، تحدّث بعض الصحفيين عن إمكانية اختطاف كيسنجر من قبل الأسد.
بمذكراته، تحدّث كيسنجر عن تفاوض حافظ الأسد بإصرار وجرأة ورفضه التنازل عن مطالبه، كما وصف الموقف الإسرائيلي بالمتصلب والعنيد. فضلا عن ذلك، تحدّث وزير الخارجية الأميركي عن نجاحه في إرساء مناخ طمأنينة مع الرئيس المصري أنور السادات. وبفضل ذلك، تمكّن كيسنجر من بلوغ اتفاقيات وقف إطلاق نار بين كل من مصر وإسرائيل. أثناء المفاوضات، حاول كيسنجر إبعاد كل من بريطانيا وفرنسا لكونهما قوتين استعماريتين سابقتين بالمنطقة. فضلا عن ذلك، ركّز كيسنجر على تقليص الدور السوفيتي بالمفاوضات العربية الإسرائيلية أملا في الحد من نفوذ موسكو بالمنطقة.