هي قصة أقرب إلى الخيال، مثيرة بكلّ تفاصيلها التي تكاد لا تُصدَّق أحياناً، وفي أحيانٍ أخرى تكون مرعبة بل تُنذر بالخطر. ولهذا السبب استطاعت أن تجذب المنتجين من حول العالم، الذين حوّلوها إلى أفلام ووثائقيات، حققت نجاحاً كبيراً في كلّ أشكالها. من الولايات المتحدة تأتي قصة التوائم الثلاثة الذين تمّ فصلهم عن بعض بعد الولادة، وتوزيعهم على 3 عائلات مختلفة، من أجل تجربة علمية لم يُكشف عنها وعن تفاصيلها أو أهدافها إلا بعد لقائهم بمحض الصدفة.
تصدّرت قصة التوائم الثلاثة عناوين الصحف العالمية حين كُشفت، وصار كلّ من روبرت شافران وإدوارد غالاند وديفيد كيلمان حديث الناس في كلّ مكان، حتى إن القنوات التلفزيونية تهافتت على استقبالهم ضمن برامجها. لكن الحقيقة أن قصة التوائم الذين اجتمعوا بعد 19 عاماً من الفراق، والتي تبدو نهايتها سعيدة، أخفت واقعاً مروّعاً وجانباً قاسياً. فقد عانى الرجال الثلاثة من مشاكل في الصحة النفسية، تسبّبت بانتحار أحدهم، بعد معركة قاسية مع الاكتئاب. ما يُثير الذعر في قصة التوائم الثلاثة هي الإجابات على الأسئلة التالية: لماذا تم فصل هؤلاء الأولاد عند الولادة؟ ولماذا لم يتم إخبارهم أن لديهم أشقاء بيولوجيين؟ ولماذا لم يتم إبلاغ أي من الوالدين بالتبني أيضاً بذلك، أو حتى منحهم خيار تبني الثلاثة معاً؟
كيف بدأت قصة التوائم الثلاثة؟
بدأت قصة التوائم الثلاثة عام 1961، عندما أنجبتهم والدتهم البيولوجية يوم 12 يوليو/تموز نتيجة علاقةٍ خارج إطار الزواج، فاضطرت للتخلي عنهم وتسليمهم إلى وكالة Louis Wise Adoption الشهيرة والمعتمدة وقتئذٍ للعائلات اليهودية. في العام 2004 سيتم إغلاق هذه الوكالة بشكلٍ دائم، بعد سلسلة فضائح حول قيام الأطباء النفسيين التابعين لها باستخدام حياة الأطفال -المعروضين للتبني- من أجل أغراض وتجارب علمية، معظمها كان لا إنسانياً.
عُرض الأشقاء الثلاثة للتبني، ولكن منفصلين، فتبنّتهم 3 عائلات مختلفة لم يُعطَ لها أساساً خيار تبنيهم مجتمعين، كما لم يتم إخبارهم أن لكل طفلٍ منهم شقيقَين. لماذا؟ لقد أراد عالم النفس بيتر نيوباور، التابع للوكالة، إجراء دراسة عمّا إذا كانت الطبيعة البيولوجية هي التي تتحكم بالأشخاص أو التنشئة. ففصل التوائم الثلاثة ووضعهم في 3 بيئات مختلفة، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، محاولاً اكتشاف تأثير ذلك على شخصياتهم في وقتٍ لاحق.
الدكتور بيتر نيوباور
لم تنتهِ قصة التوائم الثلاثة هنا، فعلى مدار السنوات الـ15 اللاحقة، كان الدكتور بيتر نيوباور يزور الأولاد في منازلهم. وبحجة أنه يُجري أبحاثاً على الأطفال المتبنين، أجرى -برفقة مجموعة باحثين- اختبارات نفسية مكثفة، وقاسية في بعض الأحيان على الأطفال، وصوّر كل هذه التجارب.
كان الدكتور نيوباور يزور التوائم الثلاثة بفارق ساعاتٍ فقط، ويُجري الاختبارات عليهم تباعاً، ثم يذهب لمشاهدة التسجيلات ومقارنتها مع بعض، ومن ثم تدوين ملاحظاته. عاش كل من روبرت شافران وإدوارد غالاند وديفيد كيلمان حياته الخاصة وسط عائلاتٍ مختلفة، واختبروا فترة طفولة ومراهقة وشباب مختلفة، حتى اكتشفوا بعد 19 عاماً أن كل هذه الحياة كانت مرتبة. عام 1980 كان فاصلاً في قصة التوائم الثلاثة، حين أُعيد لمّ شملهم عن طريق الصدفة مع التحاق روبرت شافران بكلية Sullivan County Community في نيويورك.
ثلاثة غرباء متشابهين
لم يُدرك روبرت شافران أن حياته ستنقلب رأساً على عقب في اليوم الأول من التحاقه بالجامعة عام 1980، حين استقبله زملاؤه على أساس أنه صديقٌ مرَّ زمنٌ على لقائهم به. عانقوه، ومازحوه، رغم أنه لم يطأ هذه الكلية من قَبل. استغرب روبرت الأمر، وحين أخبر الرفاق أنه لا يعرفهم، اعتقدوا أنها مزحة حتى أكد لهم أنه ليس إدوارد غالاند (إيدي) الذي درس في الكلية نفسها خلال العام السابق.
صُدم مايكل دومنيتز، صديق إيدي، بردة فعل روبرت. وحين سأله إن كان من مواليد 12 يوليو/تموز 1961، أجابه روبرت بـ"نعم"، فأخبره مايكل على الفور باعتقاده أن له شقيقاً توأماً هو نسخة طبق الأصل عن روبرت. فُتن روبرت بكلام مايكل، وأراد مقابلة إيدي. وهذا ما حصل. في الفيلم الوثائقي Three Identical Brothers، الذي صدر عام 2018 وموجود اليوم على نتفليكس، يقول روبرت، متذكراً أول لقاءٍ له مع إيدي: "عندما مددتُ يدي لأطرق الباب، فُتح، وها أنا ذا".
روبرت وإيدي في أول لقاء بينهما
كانت لدى الشابين ملامح الوجه نفسها، والبنية الثقيلة نفسها، والبشرة الداكنة نفسها، إضافةً إلى الشعر الأسود المجعد نفسه، وبالطبع تاريخ الميلاد نفسه: 12 يوليو/تموز 1961. كانا توأمين متطابقين، وهي حقيقة تأكدت بسرعة من سجلات المستشفى الذي وُلدا فيه. روبرت وإيدي كانا يعلمان أنهما طفلان بالتبني، لكن لم يكن أي منهما على علم بأن لديهما توأماً، كما لم يدركا أنهما فئران تجارب.
سرعان ما تصدرت قصتهما عناوين أخبار الصحف والقنوات التلفزيونية، في جميع أنحاء الولايات المتحدة، حتى فوجئ التوأم والعالم كلّه بوجود شقيقٍ ثالث. ووفقاً لصحيفة بريطانية، فقد تلقت والدة إيدي غالاند بالتبني اتصالاً في أحد الأيام، من شابٍ غريب. عرّف عن نفسه بأنه ديفيد كيلمان، بدا مهتماً كثيراً بقصة ابنها وشقيقه التوأم، وادعى أنه يشبههما حدّ التطابق ويعتقد أنه شقيقهما الثالث.
وخلال أسابيع قليلة فقط، انقلبت حياة التوائم الثلاثة، وحياة عائلاتهم بالتبني، بشكلٍ غير متوقع تماماً. فقد اكتشف الثلاثة أن والدتهم الحقيقية حملت بهم بعدما قابلت رجلاً ليلة تخرجها، وعندما علمت بحملها، قررت إنجابهم وعرضهم للتبني. ومجدداً، كانت رؤية الأشقاء الثلاثة الأقوياء معاً أمراً أثلج صدور الأمريكيين، الذين تابعوا قصتهم من خلال الصحف والبرامج التلفزيونية. وقد عرف التوائم سنوات قليلة من السعادة، عندما قرروا العيش معاً.
انتحار إيدي غالاند
خلال بحثهم عن ماضيهم، وسبب تخلّي والدتهم عنهم، بدأت خيوط الحقيقة تنكشف واحداً تلو الآخر. فقد اكتشف التوائم أن فريقاً بحثياً، بقيادة العالم بيتر نيوباور ومساعدة وكالة التبني، رتب عملية التبني لاحقاً؛ بحيث يتم تبنيهم من قبل آباء ينتمون لخلفيات اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة، بهدف إجراء تجارب بحثية، لم تتوقف على مدى 15 عاماً.
تمّ تبني ديفيد كيلمان من عائلة تنتمي إلى الطبقة العليا، لأبٍ كان طبيباً. أما روبرت شافران، فقد أُعطي لعائلة من الطبقة العاملة تمتلك محل بقالة، فيما وُضع إيدي غالاند في عائلة من الطبقة المتوسطة. بعد لمّ الشمل، وقرار العيش في بيتٍ واحد، افتتح الأخوة "مطعم مانهاتن" بالشراكة. وقد اعتادوا خلال تلك الفترة ارتداء الملابس نفسها، وارتياد الأماكن نفسها، وصاروا مشهورين في كل أنحاء الولايات المتحدة.
لكن سرعان ما انتهت الأيام السعيدة وبدأت الخلافات تظهر بين الأشقاء حول ظروف العمل وطريقة العيش، كما بدأ كل واحد يعتقد أنه مُهمّش، حتى وقعت المأساة. ففي العام 1995، نُقل إيدي غالاند إلى المستشفى بسبب إصابته بالاكتئاب، وقد كانت علاقته متوترة مع والده بالتبني. ومع الوقت، تفاقمت حالته النفسية حتى وصلت إلى ذروتها عندما أطلق النار على نفسه، ومات منتحراً عن عمر 33 عاماً.
شعر كل من ديفيد وروبرت بالحزن على موت شقيقهما، وكردة فعلٍ على الانتحار، ابتعدا عن بعضهما البعض وعاشا حياةً منفصلة. وفي العام 2018، قرر المخرج تيم واردل التعمّق بتفاصيل قصة التوائم الثلاثة، التي أثارت الجدل على مدار ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. فقدّم فيلماً وثائقياً يصوّر التأثير المروّع للدراسة التي أُجريت على الأشقاء، حتى بعد مرور أكثر من 40 عاماً عليها.
وقد أدرك الأشقاء أنهم لم يكونوا الأطفال الوحيدين، المُدرجة أسماؤهم في الدراسة، والذين جرى فصلهم عن بعضهم منذ الولادة، ومُنحوا لعائلات مختلفة. فقد تبيّن أن الفريق البحثي، بقيادة الدكتور نيوباور، أجرى الدراسة نفسها على ما يقارب 11 تواماً. لم ينشر نيوباور دراسته أبداً، ولا يُسمح لأحد بقراءتها، وهي محفوظة حتى اللحظة في جامعة ييل، التي ترفض الكشف عن تفاصيل الدراسة، نزولاً عند رغبة العالِم الأمريكي الذي أوصى بفتح دراسته والاطلاع عليها عام 2065.
اليوم، يطالب الشقيقان كيلمان وشفران بالكشف عن الوثائق الرسمية الخاصة بالدراسة، وباعتذارٍ رسمي وتعويض من المجلس اليهودي، الذي رفض الظهور في الفيلم الوثائقي الذي أخرجه تيم واردل. لكن، وفي تحقيقٍ أجرته صحيفة Washington Post عام 2019، حول الدراسة المثيرة للجدل، التقت المتحدثة الرسمية باسم المجلس اليهودي التي قالت: "لا يوافق المجلس على الدراسة التي أجراها الدكتور بيتر نويباور، ويقدّر غاية الفيلم الوثائقي النبيلة في وضع القضية تحت الضوء". وأضافت قائلة: "نأمل أن يساعد الفيلم جميع التوائم، الذين فُصلوا عن بعضهم البعض، في معرفة هويتهم الحقيقية".