ما حدث مع عائلة بول فرونزاك ليس حادثاً غريباً، بل سلسلة من الأحداث التي تفوق الغرابة. تخيّل معنا أن عائلة تحزن لخطف ابنها، ثم تحتفل باستعادته، قبل أن تكتشف بعد أكثر من نصف قرن أن مَن استرجعته هو "الطفل الخطأ"، الذي خُطف هو الآخر. ولعلّ أغرب من كل ذلك أن يكون مُكتشف هذه الحقيقة المُرّة هو ذلك "الابن الخطأ"، بول فرونزاك، الذي وجد بعد 55 عاماً أنه ليس ابن الوالدين اللذين يعيش معهما. فقد أُعيد إليهما عن طريق الخطأ، بعدما خُطف هو الآخر! لكن، كيف حدث كل ذلك؟ وهل يعرف بول فرونزاك، اليوم، من هما والداه الحقيقيَّان؟
البداية من مستشفى شيكاغو
بدأت القصة في أبريل/نيسان 1964، عندما أنجبت السيدة دورا فرونزاك طفلها في مستشفى شيكاغو، وأطلقت عليه اسم بول. وبعد ساعات قليلة، دخلت امرأة إلى غرفتها مُدّعية أنها ممرضة، وأخذت الرضيع من دون أن تعود. ممرضو وممرضات المستشفى الحقيقيون أيقنوا اختفاء الرضيع من غرفة السيدة دورا، بعد أقلّ من ساعة، لكنهم لم يخبروها تلافياً للصدمة. وحاولوا، رفقة عمال المستشفى، البحث عن المولود الجديد.
وحين لم يعثروا عليه، اتصلت إدارة المستشفى بالزوج، شيستر فرونزاك، وأخبرته بخطف طفله بول فرونزاك؛ فنقل بدوره الخبر المُفجع إلى زوجته. فإنّ البحث عن الرضيع بول فرونزاك كان أكبر عملية بحث في تاريخ مدينة شيكاغو. فقد فتش مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، مع شرطة المدينة و175 ألف عامل بريد، 600 منزل في اليوم نفسه الذي تمّت فيه عملية الخطف.
وبموازاة عمل السلطات الأمنية، فقد لقيت الحادثة اهتماماً واسعاً من وسائل الإعلام المحلية، التي تابعت تطورات القضية عن كثب وأجرت مقابلات مع الوالدة، التي توسلت -في إحدى مداخلاتها- الخاطفين، قائلة: "اهتموا بطفلي". لكن عملية البحث كانت صعبة، فلم يملك مكتب الـFBI معلومات عن الرضيع سوى فصيلة الدم وشكل الأذن. ورغم أنّها فحصت حوالي 10 آلاف رضيع، لم يتطابق أي واحد منهم مع المفقود.
طُوي ملف البحث عن الرضيع، وعاشت عائلة فرونزاك سنتين من المعاناة، قبل أن تتلقى رسالة من مكتب التحقيقات تقول إن شرطة مدينة "نيوآرك" في ولاية نيو جيرسي قد عثرت على طفلٍ صغير، يملك ملامح تتطابق مع ملامح الرضيع المخطوف في شيكاغو.
تمّ العثور على الصبي الصغير في يوليو/تموز 1965 داخل أحد المراكز التجارية للمدينة، جالساً في عربة أطفال من دون مرافقة. فجرى تسليمه إلى إحدى العائلات التي كانت تعتزم تبنيه، قبل أن يخطر ببال أحد مفتشي شرطة نيو جيرسي احتمال أن يكون الطفل هو نفسه الرضيع المُختفي في شيكاغو. وبعد 3 أشهر من اتصال مكتب التحقيقات الفيدرالي بعائلة فرونزاك، انتقلت دورا وزوجها شيستر إلى نيو جيرسي للقاء الطفل. وبمجرد رؤيته، أعلنت السيدة فرونزاك أنه هو، فتمّ لم شمل الأسرة الحزينة التي عرفت السعادة من جديد.
كيف اكتشف بول فرونزاك أنه "الطفل الخطأ"؟
عاش بول فرونزاك طفولة سعيدة في كنف والديه اللذين أغدقاه بالحب والحنان، قبل أن تبدأ حياته في التغيّر. ففي العاشرة من عمره، اكتشف أنه خُطف وهو رضيع خلال بحثه عن هدايا عيد الميلاد، حين وجد في أحد زوايا المنزل علبة مليئة بمقالات صحفية عنه. كانت تلك قصاصات الصحف التي تحدثت عن حادثة خطفه من المستشفى، والتي ارتأى الوالدان الاحتفاظ بها في مكانٍ سري بالمنزل، ريثما يكبر الطفل ويخبرانه ما جرى. لكن بول وجدها قبل ذلك، وقرأ عناوين مثيرة على غرار "الأم تطلب من الخاطف أن يعيد الطفل"، و"200 شخص يبحثون عن رضيع مُختطف".
فأدرك على الفور أن تلك المقالات تتحدث عنه، وأسرع نحو والدته للاستفسار. فأخبرته بالحقيقة، قائلة: "نعم لقد تم خطفك ثم وجدناك، ونحن نحبك، وهذا كل ما تحتاج إلى معرفته". احتفظ بول بقصاصات الجرائد تلك، وكلّما مرّت السنوات كان يكتشف وقائع ومعلومات جديدة عن القضية، التي شغلت الرأي العام الأمريكي خلال فترة حدوثها.
تزوج بول فرونزاك، لكنه لم يتخلص من شكوكه. وحين بلغ عامه الـ44 وأصبح والداً في العام 2008، صار يطرح على نفسه أسئلة من نوع: "هل أنا فعلاً الرضيع الذي خُطف"؟، و"ماذا لو ما زال بول فرونزاك مفقوداً"؟. تحدث بول فرونزاك عن فترة الشك الطويلة التي عاشها، فقال: "طيلة سنوات، كنت أرغب في إجراء اختبار الحمض النووي، ليس لأني لم أكن سعيداً. أردت فقط معرفة الحقيقة".
وتابع موضحاً سرّ تردده الطويل في الإقدام على تلك الخطوة: "لم أرغب في إيذاء والديّ، ولكن وصل الوقت الذي كنتُ بحاجةٍ فيه إلى معرفة الحقيقة". في العام 2012، وضع بول حداً لتردده الطويل واشترى اختبار الحمض النووي. وفي إحدى زيارات والديه له، سألهما: "هل تساءلتما يوماً ما إذا كنتُ فعلاً ابنكما الحقيقي"؟. وافق الوالدان على إجراء الاختبار، لكن سرعان ما غيّرا رأيهما، إلا أن الأوان كان قد فات. فقد أرسل بول المسحات إلى المختبر، وأثبتت النتائج أنه ليس ابن دورا وشيستر فرونزاك، اللذين صُدما بدورهما بهذه الحقيقة.
بول فرونزاك غير الحقيقي يجد بول فرونزاك الحقيقي
هذه الحقيقة وضعت بول فرونزاك في مهمة لمعرفة هويته الحقيقية أولاً، ومن ثم مكان وجود بول فرونزاك الحقيقي. أصبح الأمر هاجساً بالنسبة إليه، ويلوم نفسه جزئياً على ذلك، لأن زواجه تفكك وقد اختلف مع والديه بالتبني على مدى 3 سنوات. قاد العمل الاستقصائي المضني، الذي قام به فرونزاك وفريق من علماء الأنساب، إلى مدينة صغيرة في ميشيغان، تشتبه إحدى عائلاتها بأن والدهم (وهو في الخمسينيات من عمره) قد يكون بول فرونزاك الحقيقي.
الرجل يُدعى كيفن باتي، ويشتبه أولاده بأنه بول الحقيقي لأنه قضى السنوات الـ10 الأولى من حياته في شيكاغو. وبعد أن قدّم أحد أولاده عيّنة من حمضه النووي، تبيّن أن رجل ميشيغان هو بالفعل بول فرونزاك. لكن حتى اللحظة، لا أحد يعرف من خطف الرضيع ولماذا، خصوصاً أن المرأة التي ربّت بول فرونزاك الحقيقي (كيفن باتي) ماتت قبل سنوات من اكتشاف الحقيقة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، تواصلت دورا فرونزاك للمرة الأولى مع ابنها الحقيقي الذي خُطف منها قبل أكثر من 50 عاماً. تحدثت معه مرتين، وفي المحادثة الأولى أرادت أن تعرف نوع الحياة التي عاشها. وقد خططت دورا وزوجها شيستر للقاء ابنهما الحقيقي، لكن أمنيتهما لم تتحقق، فقد توفي الرجل في أبريل/نيسان 2020 بعد معاناة مع مرض السرطان.
بول فرونزاك يكتشف هويته مع مصيرٍ مجهول لشقيقته
بالتزامن مع كل ما سبق وحدث، كان "الابن الخطأ" يبحث عن هويته الحقيقية أيضاً. وقد اكتشف في العام 2015 أنه وُلد تحت اسم جاك روزنثال يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 1963، ما يعني أنه أكبر من بول الحقيقي بحوالي 6 أشهر. كما اكتشف أن له شقيقين أكبر منه، لكنهما رفضا التحدث إليه. والأمر الأكثر استغراباً أن لديه شقيقة توأماً، تُدعى جيل، وكلاهما اختفيا في الوقت نفسه حين كانا رضيعين.
كما علم بول من أقاربه أن والدته البيولوجية كانت مُدمنة على الكحول، وأن والده البيولوجي عاد من الحرب الكورية بمزاجٍ عنيف، وقد يكون هذا هو سبب تخلي الأم عن طفليها التوأم. في الكتاب الذي أصدره عام 2017، بعنوان The Foundling: The True Story of a Kidnapping, a Family Secret, and My Search for the Real Me، يرى جاك روزنثال نفسه محظوظاً لأنّه عاش مع عائلة فرونزاك بدلاً من عائلته الحقيقية.
اللافت أن جاك أصدر الكتاب باسم بول فرونزاك، وكتب قائلاً: "لم يكن والداي الحقيقيان لطيفين. أنا مُمتن لهما لأنهما تخليا عني، فقد سمح لي ذلك بأن أكون مع عائلة أنقذت حياتي". اليوم، انتقل هوس جاك روزنثال من معرفة هويته إلى معرفة مصير شقيقته التوأم، وقد أعلن مراراً وتكراراً أنه متخوف من أن يكون قد حدث لها أمرٌ فظيع.