قبل أربعين عاما، كانت جزيرة نائية في مقاطعة سافولك البريطانية مسرحاً لواحدة من أشهر حوادث ظهور ما يُقال إنها أجسام طائرة مجهولة. فما الذي جرى تحديدا؟ وهل تيقنا من حقيقة ما حدث هناك؟ كان فينس ثوركيتل يقطع الأخشاب ذات صباح في غابة رندلشام في أواخر ديسمبر/كانون الأول من عام 1980 حين توقفت أمامه سيارة.
خرج منها رجلان، يقدر عمر كل واحد منهما نحو ثلاثين عاماً، ويرتدي كلاهما زيا رسميا. قال أحدهما بلكنة إنجليزية جيدة: "صباح الخير. هل تمانع في أن نطرح عليك بعض الأسئلة؟". وفي وقت سابق يومي 26 و28 ديسمبر/كانون الأول أفاد أفراد أمن القوات الجوية الأمريكية المرابطة في قاعدة وودبريدج الجوية برؤية أضواء غريبة في الغابة المحيطة.
قال عامل الغابات ثوركيتل إن الضيفين اللذين لم يكشفها عن هويتيهما سألاه إن كان قد خرج إلى الغابة في الليلة الماضية. فأجاب بـ"لا". سألا "هل غادرت المنزل على الإطلاق؟ هل رأيت أي شيء؟". فأجاب "مثل ماذا؟" قالا: "هناك تقارير عن أضواء حمراء في الغابة، نحن نتحقق فقط".
وأشار إلى أن الرجلين طرحا عليه بمنتهى الأدب والحزم نحو 20 سؤالا، حتى أنه ظن أنهما صحفيان. ثم قالا فجأة "هذا يكفي. لا يوجد شيء على الأرجح"، قبل أن يغادرا. وأضاف: "لذلك واصلت شراء الصحف كل صباح على مدى الأيام التالية لأعرف ما الذي كان يحدث، لكنني لم أجد شيئا".
غير أنه وبعد ثلاث سنوات كانت الحادثة عنواناً لصحيفة نيوز أوف ذا وولد في صفحتها الأولى. وكان العنوان "هبوط جسم طائر مجهول في سافولك". واستندت القصة إلى مذكرة وجهها الكولونيل تشارلز هولت نائب قائد قاعدة وودبريدج الجوية إلى وزارة الدفاع. وكُشف عن المذكرة من قِبَل الحكومة الأمريكية، التي وصفت ما حدث بأنه رؤية ما يبدو أنه جسم طائر مجهول في الغابة. ومنذ ذلك الحين صارت الواقعة مثار جدل واسع وتكهنات بين هواة الأجسام الطائرة المجهولة ومادة لكتب ومقالات وبرامج تلفزيونية عدة.
وفي مارس/آذار اعتبر فيلم وثائقي أن الواقعة صارت بمثابة "أسطورة" مثل وحش بحيرة لوخ نَس أو الملك أرثر. حتى أن الغابة صارت تضم ممشى يسلكه الزوار للخلع الملابسف بالمنطقة التي شهدت ظهور أجسام طائرة مجهولة، إلى جانب مجسم لصحن طائر بالحجم الطبيعي.
ويقول ثوركيتل إن السلطات البريطانية أفادت بأنها لم تعلم بالواقعة قبل الكشف عن مذكرة هولت. غير أن المذكرة نفسها لم تُكتب سوى بعد أسبوعين من زيارة الرجلين له، كما يقول ثوركيتل. "لذا، لابد وأن أحداً ما أخبرهم قبل ذلك"، كما يقول. كما أن ثوركيتل لم يسمع شائعات عن ظهور أجسام طائرة مجهولة في الغابة سوى بعد تلك الزيارة.
وقد توسل لمديره أن يريه الموقع، غير أنه حزن بشدة حين توجه إلى هناك، قائلاً "لم أجد شيئاً، كان سطح الغابة طبيعياً، رأيت فقط ثلاثة شقوق تركتها أرانب، وكانت مُحددة داخل مثلث بشكل واضح". ويضيف: "كانت هذه الشقوق محاطة بعصي. وأعتقد أن الأمريكيين هم من فعلوا ذلك. ففي حالة ما إذا كانوا قد شاهدوا ضوءاً خلال الليل، ثم جاءوا في الصباح بحثاً عن السبب، يمكنني أن أتفهم لماذا ظنوا أن لهذه الشقوق علاقة بالأمر".
غير أنه بالنسبة إليه "كرجل ولد وترعرع في الريف" لم يلحظ شيئاً غير معتاد. "كان السطح طبيعياً تماما. قالوا إنهم وجدوا أغصاناً مكسورة، والغابة تمتلئ بالأغصان المكسورة". "شاهدوا آثار حروق على الأشجار، وقالوا إنه لابد وأن الحرارة المنبعثة من المركبة الفضائية أحرقت هذه الأشجار. لكن الأمر لم يكن نتيجة لذلك، وإنما قام به حارس يدعى بيل بريغز باستخدام فأس".
وكان ثوركيتل الذي يبلغ من العمر الآن 64 عاما من أوائل الأشخاص الذين رجحوا تفسيراً مختلفاً للواقعة. فقد حدثت -كما يقول- في الجزء الوحيد من الغابة الذي يمكن من خلاله رؤية منارة فنار أورفوردنيس. ويضيف: "إنه أمر غريب، لأن هناك رقعة منحدرة من غابة رندلشام ثم يوجد تل غيدغريف على مسافة نحو ميلين، وتوجد فجوة بين الأشجار على التل ثم منارة فنار أوردفودنيس على مسافة نحو ثمانية أميال".
ويضيف "من يؤمنون بنظرية الأجسام الطائرة المجهولة تحدثوا إلى حراس الفنار والذين قالوا بدورهم إن ضوءه لم يصل لأرض الغابة قط. وأنا أعتقد أن هذا هراء". "لقد جلست تحت ضوء الفنار ونظرت نحوه ونحو الغابة". لكن من هما الرجلان الغامضان اللذان زارا ثوركيتل؟ لا يعرف ثوركيتل على وجه التحديد، لكنه يغضب حين يقول الناس إنه يزعم بأنه تلقى زيارة من "رجال في ملابس سوداء"، والذين يقومون -وفقاً للأسطورة- باستجواب وترهيب شهود العيان في حوادث ظهور أجسام طائرة مجهولة". ويضيف: "أقول لهم أنني لا أقصد هذا. ما أقوله هو أن التسلسل الزمني للقصة خاطئ".
ويقول الدكتور ديفيد كلارك الصحفي والأكاديمي -الذي دفعت مطالباته وزارة الدفاع إلى الكشف عن تفاصيل ملف واقعة رندلشام- إن التفسير "الأكثر منطقية" هو أن الرجلين الذين زارا ثوركيتل كانا مراسلين لصحيفة محلية ربما علما بالأمر عن طريق الشرطة المحلية. ويقول إن رواية حراس الأمن التابعين للقوات الجوية الأمريكية لم تُشرح بالكامل. ويضيف: "لا يزال هناك عنصر من الغموض. ما زلت أرى ما حدث لهؤلاء الرجال خلال الليلة الأولى محيرا. ربما رأوا شيئاً لا يمكن تفسيره".
كان جون باروز من بين هؤلاء. ذهب للتحقق من المشهد، ويقول إنه رأى في البداية منارة فنار في الغابة تشع أنواراً خضراء وحمراء وبرتقالية وبيضاء. وحين اقترب هو وزملاؤه، يقول باروز إنهم رأوا ضوءاً أبيض ينفجر في صمت، ثم جسماً أحمر بيضاوياً يشبه الشمس، قبل أن يرتفع بين الأشجار ويعود باتجاه الساحل.
ويقول باروز الذي خدم في القوات المسلحة الأمريكية لـ27 عاما "مر 40 عاماً حافلاً منذ الواقعة. كلما ظننت أن القصة انتهت، يحدث شيء آخر". ونشر باروز في ديسمبر/كانون الأول كتاباً جديداً -بعنوان "تسليح ظاهرة جوية مجهولة"- يُسلط فيه الضوء على بحث علمي يقول إنه يظهر أن الحادثة كانت نتيجة تجارب حول الاستفادة من مجالات الطاقة في الغابة.
ويضيف: "كانوا يدرسون مجالات الطاقة في الاستخدامات المختلفة؛ ومن بينها العسكرية". ويزعم باروز أن الفنار كان "يشع ترددات كهرومغناطيسية صوب غابة رندلشام". ويؤكد "لم أقل قط إنها مركبة فضائية لأنني لم أكن أعلم". ويقول إن ما رأه كان نوعاً من الطاقة أو "البلازما التي يمكن أن تكون نوعاً من النشاط الاستخباراتي".
أما الدكتور كلارك فذكر في مدونة على الإنترنت أنه أجرى لقاء مع سايمون ويدين المسؤول بوزارة الدفاع البريطانية قال خلاله إنه ثبت أن مزاعم رندلشام "غير ذات أهمية دفاعية". وكان ويدين الذي ترك العمل بوزارة الدفاع عام 1988 هو أول مسؤول يحقق في مذكرة الكولونيل هولت بشأن الواقعة.
وقال للدكتور كلارك: "أغلب التقارير التي نتلقاها تكون من أناس عاديين. هذه الواقعة كانت غير معتادة لأن مصدرا عسكريا هو من أبلغ عنها". وقد قام بتعميم المذكرة، لكن أيا من محطات الرادار التي تم فحصها لم تبلغ عن شيء غير معتاد خلال فترة عطلة أعياد الميلاد.
ويقول ويدين "بعد أن انتهينا من الفحوص الأساسية ووجدنا أنه لم يتم العثور على شيء على الرادار، ولم يكن هناك تفسير واضح أو تهديد واضح للدفاع الجوي قررنا أنه لا حاجة لاتخاذ المزيد من الإجراءات". وقد عبرت الكاتبة بريندا باتلر التي تعيش في بلدة ليستون في مقاطعة سافولك عن سعادتها بنشاط حركة السياحة في المنطقة المحيطة بالغابة.
وتقول " يمكن تمييز ثمانية مواقع للهبوط هنا، وكل شخص لديه رؤية خاصة لهذا الأمر. إذا توجهت لهناك برفقة أحد الشهود، فقد يذهب بك إلى مكان آخر". وتعتقد باتلر- والتي ألفت عام 1986 كتاباً عن تلك الواقعة باسم "سكاي كراش" أو حادث السماء- أن ما حدث قد يكون عملية تعقب لأحد الأقمار الصناعية الروسية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
وترى الكاتبة البريطانية أن "ماحدث له علاقة بالحرب الباردة الدائرة آنذاك بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وأنه يتعين الكشف عن الكثير من الملفات المتعلقة بالأمر، ولكن ما يحدث هو عملية تعتيم كبرى". وتضيف: "أريد أن أقف على حقيقة ما حدث، لكن أعتقد أن أحداً لن يتمكن من ذلك".