كان كارلوس غصن في أوج قوته ونفوذه عندما وصل، عصر أحد أيام شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018، إلى مطار هانيدا في العاصمة اليابانية طوكيو. فقد كان آنذاك يشغل منصب رئيس مجلس إدارة شركة نيسان اليابانية لصناعة السيارات، وكان الرجل الذي يعود له الفضل في انقاذ الشركة اليابانية من خطر الإفلاس الذي كان يحيق بها. كما كان يشغل في نفس الوقت منصب المدير التنفيذي لشركة رينو الفرنسية لانتاج السيارات، وكان المحرك الرئيسي للتحالف العالمي بين الشركتين. وشكّل التحالف - الذي يضم أيضا شركة ميتسوبيشي الأصغر حجما - مجموعة صناعية تبيع أكثر من 10 ملايين سيارة في السنة.

تعوّد غصن على تقسيم وقته بين باريس وطوكيو، كما كان يتفقد بانتظام عمليات المجموعة الصناعية في أمريكا الشمالية. وكانت تصحب هذا السفر المتواصل محفزات، مثل حق استخدام طائرة خاصة في تنقلاته بين الوجهات المختلفة حول العالم. وكانت لغصن، المولود في البرازيل والذي كبر وترعرع في لبنان وتلقى تعليمه في فرنسا، علاقات ووشائج في هذه البلدان الثلاثة وكانت له منازل فخمة في ريو دي جانيرو وباريس وبيروت علاوة على طوكيو.

وصل غصن إلى طوكيو في ذلك اليوم التشريني قادما من بيروت. وعندما كانت طائرته الخاصة الأنيقة تسير في أرض المطار، كان من اليسير التعرف عليها بفضل رقم التسجيل المكتوب على محركيها، إذ كان N155AN، القريب من اسم شركة نيسان بالأحرف اللاتينية. ولكن غصن لم يكن يعلم ما الذي كان ينتظره في صالة المطار.

يقول إنه ما أن دخل الصالة، أقتيد إلى سيارة أقلته إلى قسم جوازات السفر حيث أبلغ بأن ثمة مشكلة في تأشيرته. وأخذ بعد ذلك إلى غرفة جانبية صغيرة حيث ألقي عليه القبض رسميا بتهمة ارتكاب جرائم مالية خطيرة. وبعد سويعات من وصوله إلى طوكيو، وجد نفسه محبوسا في زنزانة.

لم يكن كارلوس غصن الهدف الوحيد. فغريغ كيلي، وهو من أقرب المقربين لغصن، اعتقل هو الآخر عند وصوله إلى مطار آخر قادما من الولايات المتحدة بعد استدعائه لحضور ما كان يعتقد أنه اجتماع طارئ. كان كيلي الأمريكي البالغ من العمر 63 عاما يشغل منصب "المدير التمثيلي" لشركة نيسان، وكان مكلفا رسميا بتنفيذ رغبات مجلس ادارتها. ولكن عمليا، كان كيلي منفذ أوامر غصن تحديدا. وكان ينوي المشاركة في "الاجتماع الطارئ" الذي دعي إليه بواسطة الاتصال بالفيديو وذلك لدواع صحية. ولكن زوجته تقول إن الشركة أصرت على حضوره شخصيا، وبعثت بطائرة خاصة للإتيان به إلى اليابان.

نقل الإثنان بعد اعتقالهما إلى مركز احتجاز كوسوغي الواقع شمال شرقي طوكيو. مكث غصن في زنزانة صغيرة في ذلك المركز لأربعة شهور، كان يستجوب اثناءها يوميا سعيا من مسؤولي النيابة العامة لاجباره على الإعتراف. أطلق سراح كيلي، الذي يعاني من مشاكل في العمود الفقري، بكفالة بعد نحو شهر من اعتقاله، بعد أن نشرت زوجته رسالة مصورة في الولايات المتحدة اشتكت فيها بشدة من المعاملة السيئة التي كان يلقاها من قبل السلطات اليابانية.

وما زال كيلي في اليابان بانتظار مثوله أمام القضاء، وهو بعدة أوجه يعد الرجل المنسي في القضية. وفي آذار/مارس 2019، أطلق سراح غصن لفترة وجيزة بعد أن دفع كفالة بلغت 9 ملايين دولار أمريكي، ولكن أعيد اعتقاله بتهم جديدة قبل أن يطلق سراحه أواخر نيسان/أبريل بعد دفعه ضمانا بلغت قيمته 4,5 مليون دولار.

حددت السلطات اليابانية تحركاته، وحظرت عليه الاتصال بزوجته. وحتى عندما سُمِح له بالتحدث معها عبر الانترنت ليلة عيد الميلاد - وكان ذلك امتيازا نادرا وافقت عليه المحكمة - كان ذلك مشروطا بوجود محام يستمع الى حديثهما. قضى فيليب رايس - كاتب سيرة غصن - عدة أسابيع في طوكيو في العام الماضي، وكان يلتقي به يوميا. وقد تحدث إليه بعد هروبه، ويعتقد أن الطريقة التي عامل بها اليابانيون زوجته كانت سببا مهما لقراره بالهرب.

كانت كارول غصن - زوجة كارلوس الثانية - أقوى مسانديه. فقد كتبت بعد وقت قليل من اعتقاله رسالة شديدة اللهجة بلغ طولها 9 صفحات إلى مكتب اليابان التابع لمنظمة هيومان رايتس ووتش لحقوق الإنسان هاجمت فيها النظام القضائي الياباني الذي وصفته "بالقاسي والجائر". وقالت كارول في رسالتها إن القانون الياباني يسمح للجهات التحقيقية "باستجوابه وتهديده وإلقاء المحاضرات عليه وتوبيخه" بشكل يومي دون حضور محاميه.

عندما أعيد اعتقال غصن في نيسان/أبريل، داهمت الشرطة مسكنه فجرا عندما كان كارلوس وزوجته نائمين. وقالت كارول غصن لبي بي سي لاحقا إن ضابطة شرطة كانت تتتبع خطاها داخل المسكن عندما كان ضباط آخرون يلقون القبض على زوجها، وإن هذه الضابطة دخلت معها إلى الحمام وراقبتها عندما كانت تستحم. وقالت: "أعتقد أنهم كانوا يريدون إخافتنا وإهانتنا. حتى أن الضابطة ناولتني المنشفة".

وخضعت كارول للاستجواب من قبل السلطات اليابانية، وذلك كجزء من التحقيقات الجارية في نشاطات زوجها المالية والتجارية. ولم توجه إليها أي تهم في ذلك الحين، وغادرت اليابان بعد وقت قصير. وفي كانون الأول/ديسمبر، وسعت السلطات اليابانية نطاق تحقيقاتها لتشمل أفراد آخرين من أسرة غصن، إذ استجوبت نجله أنتوني واحدى بناته في نيويورك.

يقول فيليب رايس، "تعمدوا ملاحقة عائلته، وهو رجل يقدس عائلته فعائلته مهمة جدا بالنسبة له". ويستطرد قائلا، "أنا متأكد بأن ذلك لعب دورا كبيرا في قراره محاولة الهروب". طيلة مكوث كارلوس في السجن، لم تأل زوجته كارول جهدا في التماس معونة قادة ورؤساء الدول المختلفة بمن فيهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والرئيس البرازيلي جاير بولسونارو طالبة منهم التدخل لصالح زوجها.

الهروب

رغم شح التفاصيل الدقيقة، فإنه من الواضح أن عملية هروب كارلوس غصن من اليابان لم تفتقر إلى الإقدام والخطورة وكان مخططا لها بشكل محكم. لم تتسم مغادرته لمسكنه في طوكيو بالسرية على الإطلاق. ففي ظهر يوم الـ29 من كانون الأول/ديسمبر 2019، خرج غصن راجلا من المبنى على مرأى ومسمع الجميع.

كانت اليابان آنئذ تستعد لعطلة السنة الجديدة، ومن الممكن أن اجراءات الأمن كانت أخف من المعتاد. وحسب ما أوردته التقارير الاعلامية اليابانية، أظهرت تسجيلات كاميرات المراقبة غصن وهو يتوجه إلى فندق مجاور حيث التقى برجلين. ويعتقد الآن أن هذين الرجلين هما مايكل تايلور، العنصر السابق في القوات الخاصة الأمريكية والذي يعمل الآن متعهدا أمنيا خاصا، وشريكه اللبناني جورج أنطوان زايك.

ويعتقد أن الرجال الثلاثة استقلوا قطارا سريعا للسفر من طوكيو إلى أوساكا في رحلة استغرقت ساعتين ونصف الساعة. كانت مخاطرة كبرى، ففي ذلك اليوم كان القطار مكتظا بالركاب الذين كانوا يسافرون لقضاء العطلة مع ذويهم. وكان غصن شخصية معروفة جدا في اليابان وكان التعرف عليه يسيرا جدا. ولذلك، ولأجل تقليل الخطر اعتمر قبعة وغطى وجهه بقناع طبي وهو أمر اعتيادي جدا في اليابان لدرء مخاطر العدوى ومنع انتشار الرشح.

وبعد وصولهم إلى أوساكا، توجه الثلاثة إلى أحد الفنادق. وبعد ساعات، حسب ما قالت شبكة NHK التلفزيونية اليابانية، غادر إثنان منهم الفندق وتوجها إلى المطار، ولكن لم يستدل على أي أثر لغصن. ويعتقد الآن أنه كان مختفيا في حقيبة أمتعة كبيرة، واحدة من حقيبتين كان الرجلان يصطحبانهما.

وفي المطار، حمّلت الحقيبة في طائرة خاصة، وبذا غادر غصن اليابان كما وصل إليها قبل أكثر من سنة - على متن طائرة خاصة. وبينما كان غصن يعد لدى وصوله امبراطور صناعة السيارات، غادر اليابان وهو مطارد ومتخف في حقيبة. هذه هي القصة التي ذاعت على نطاق واسع. ولكن في مقابلة صحفية مطولة أجراها معه مراسل بي بي سي جون سيمبسون في بيروت، رفض غصن رفضا باتاٌ تأكيد تفاصيل هروبه، عدا القول إنه بارح مسكنه في طوكيو سيرا على الأقدام.

وعندما سئل عن شعوره وهو مختبئ داخل حقيبة، ضحك ثم نفى نفيا قاطعا أن ذلك حصل بالفعل. وقال: "لا أعرف ما الذي تتحدث عنه، فربما كانت المرة الأخيرة التي اختبأت فيها في حقيبة عندما كنت ألهو وأنا طفل صغير". وقال: "لا أتذكر هذه الحادثة، ولذا لا يمكنني التعليق عليها".

وتشير تقارير إلى أن الطائرة التي كانت تقل غصن ورفيقيه غادرت اليابان حوالي الساعة 11 ليلا متوجهة إلى تركيا. وحال وصول الطائرة إلى اسطنبول، استقل الثلاثة طائرة أخرى. تمت العملية بسرية تامة، ولم يدخل غصن تركيا بشكل رسمي. واقلعت الطائرة الثانية بعد وقت قصير وتوجهت إلى بيروت.

حصل كل ذلك على ما يبدو دون علم الشركة المالكة للطائرتين، إذ تقول هذه الشركة - واسمها MNGJet - إنها أجرت طائرتين لزبونين مختلفين، وإنه لم تكن هناك علاقة ظاهرة بين اتفاقي التأجير. وتصر هذه الشركة على أن اسم غصن لم يرد في أي من الوثائق الرسمية المتعلقة بالرحلتين الجويتين. وقررت اجراء تحقيق داخلي وتقدمت بشكوى جنائية لدى السلطات التركية حول الاستخدام غير المشروع لخدماتها. وتقول الشركة إن أحد موظفيها اعترف بتزوير السجلات الخاصة بالرحلتين.

وألقت السلطات التركية لاحقا القبض على سبعة اشخاص بشبهة التورط في القضية، منهم 4 طيارين يعملون لصالح MNGJet بعقود. ولكن ليس من الواضح إن كان هؤلاء على علم بوجود كارلوس غصن في الرحلتين. وبالرغم من ترتيبات السفر غير التقليدية التي اتبعها غصن، نعلم بأنه دخل لبنان بشكل قانوني باستخدام جواز سفر فرنسي وبطاقة هوية لبنانية. ولكن، وفي نهاية المطاف، ومهما كانت العواقب بالنسبة للمتورطين في العملية، فإنها تكللت بالنجاح التام. فكارلوس غصن وصل إلى لبنان واحتفل بحلول السنة الجديدة مع زوجته وبدأ بالاستعداد للدفاع عن براءته أمام العالم.

كيف تدهورت الأمور؟

كان كارلوس غصن في أوجه عملاقا في مضمار صناعة السيارات، وكان له الفضل في تشكيل واحدة من أكبر وأقوى مجموعات تصنيع السيارات في العالم. كان غصن يعرف في فرنسا "بقاتل النفقات"، ويعود له الفضل في انقاذ شركة رينو عندما كانت تترنح في نهاية تسعينيات القرن الماضي. أما في اليابان، فكان يُنظَر إليه بوصفه الأجنبي الذي جيء به لانقاذ نيسان من براثن الإفلاس، وأصبح لاحقا من المشاهير الذين يشار اليهم بالبنان.

وفي الحالتين، تحدى غصن مؤسسات عريقة وصارع مصالح متجذرة وذلك باغلاق العديد من المصانع وتسريح العاملين فيها على الأمد القصير، ولكنه مهد الطريق للنمو والعودة إلى الربحية في المستقبل. ارتبطت نيسان ورينو بموجب تحالف استراتيجي أبرم في عام 1999، وانضمت شركة ميتسوبيشي الأصغر حجما إلى هذا التحالف في عام 2016. وبحلول عام 2017، كانت هذه المجموعة تنتج أكثر من 10 ملايين مركبة سنويا. وكان غصن، باعتباره المدير التنفيذي لرينو ورئيس مجلسي ادارة الشركتين اليابانيتين، محور المشروع بأسره. ولكن ثمة مشاكل كانت تعتمل تحت السطح. فاليابانيون كانوا يستشيطون غضبا عندما تأتيهم قرارات من باريس.

يذكر أن الحكومة الفرنسية تمتلك حصة كبيرة من أسهم رينو، وتمكنت في عام 2015 من مضاعفة حقوق التصويت في تلك الشركة، معززة بذلك نفوذها على القرارات التي يتخذها مجلس ادارة رينو بشكل كبير. كان هذا أمرا خطيرا بالنسبة لنيسان، إذ إن رينو ليست شريكتها فحسب بل أكبر المساهمين فيها أيضا.

كان هذا يعني، بكل بساطة، أن القرارات السياسية الصادرة في فرنسا - والتي تراعي المصالح الفرنسية بشكل أساسي - سيكون لها أثر كبير على شركة نيسان. بحلول عام 2018، كان نفوذ الحكومة الفرنسية يزداد وضوحا. مُنِحَ غصن تفويضا جديدا ضمن له مواصلة ترؤس رينو لأربع سنوات أخرى. ولكنه كان يتعرض أيضا لضغوط كبيرة من جانب باريس لاجباره على جعل التحالف "غير قابل للانفصام".

كان غصن يخطط - وكما أكد في مؤتمره الصحفي الذي عقده في بيروت أوائل كانون الثاني/يناير - لبناء هيكل جديد لتحالف رينو-نيسان. وتشمل خططه تأسيس شركة قابضة مساهمة واحدة، وستملك هذه الشركة شركتي رينو ونيسان، ولكن الشركتين ستداران بشكل مستقل إذ سيكون لهما مقراهما وستحتفظان بهويتيهما المتميزتين.

كما كان غصن يريد ادماج شركة فيات كرايسلر الأمريكية الايطالية في التحالف، مما يحوله إلى منتج عالمي هائل الحجم لا يمكن مواجهته. ولكن من الواضح أن هذه الخطط استقبلت بشكوك عميقة في اليابان. يقول عليمون من داخل نيسان إن المديرين الكبار في الشركة كمديرها التنفيذي هيروتو سايكاوا كانوا يشعرون بالضعف نتيجة تدني أدائها. وكان هؤلاء يعتقدون أن تعزيز الأواصر مع رينو قد يقوض سلطتهم واستقلاليتهم. وكانوا يخشون أن تتحول نيسان إلى مجرد فرع لمجموعة عالمية وأن تفقد هويتها اليابانية.

يقول غصن إن مسؤولين في الحكومة اليابانية كانوا يشاركون مديري نيسان قلقهم، مضيفا أن هؤلاء المسؤولين انخرطوا لاحقا في تحركات تستهدفه. إذا كانت تلك هي الحقيقة أم لم تكن، فمن الواضح أن التوتر في نيسان بلغ أوجه في أواسط عام 2018، وأن موقع غصن أصبح حرجا دون علمه.

مؤامرة؟

يدعي غصن ومحاموه أن اعتقاله كان نتيجة مباشرة لمؤامرة تورط فيها كبار مديري نيسان ومسؤولين في وزارة الاقتصاد اليابانية هدفها ازاحته من موقعه كرئيس للتحالف ومنعه من بناء أواصر أقوى بين رينو ونيسان. كانت التهمة الأولى التي وُجِهَت لغصن تهمة مخالفة القانون الياباني عن طريق تقديم بيانات تقلل من الرواتب التي تقاضاها لأربع سنوات. وتقول السلطات اليابانية إن الفرق بين الرواتب التي تقاضاها فعلا وتلك التي أبلغ عنها يبلغ 44 مليون دولار. ووجهت تهمة مماثلة إلى كيلي.

ووُسِعَت التهمة لاحقا ليصبح الفرق 80 مليون دولار لثماني سنوات. وشملت هذه المبالغ رواتب آجلة تدفع له عند تقاعده. ويقول غصن إنه لم يتسلم هذه المبالغ قط، وإن صرفها يقتضي الحصول على موافقة مجلس ادارة نيسان، الأمر الذي لم يحصل بتاتا. استرعت القضية انتباه المسؤولين عن تنظيم أسواق الأسهم والمال في الولايات المتحدة. ففي أيلول/سبتمبر 2019، توصلت مفوضية السندات المالية والتحويل الأمريكية إلى تسوية مع غصن وكيلي ونيسان تتعلق بادعاءات تقول إن مبلغ 140 مليون دولار لم يذكر في كشوفات الشركة. ورغم فرض غرامات - دفع غصن مليون دولار - لم يقر أي من المذكورين بارتكاب أي ذنب.

وفي الأشهر التي تلت ذلك، أضيفت تهم أخرى إلى القائمة تتعلق بـ"خيانة الثقة". فقد اتهم غصن باستغلال منصبه من أجل الاسترباح، وذلك عن طريق تجيير الخسائر التي يمنى بها في استثماراته الشخصية إلى نيسان بشكل مؤقت، واستخدام أموال الشركة للوفاء بدين يبلغ قدره 114,7 مليون دولار لشريكه السعودي خالد الجفالي.

كما أتهم باختلاس مبلغ 5 ملايين دولار كان مخصصا لموزع نيسان في عُمان، شركة سيارات سهيل بهوان، والاحتفاظ به لاستخدامه الشخصي. وأُستُجوبت كارول غصن لاحقا حول ادعاءات تقول إن هذا المبلغ استخدم من قبل شركة تديرها من أجل شراء يخت فخم. يصر غصن على أن كل المعاملات المذكورة كانت سليمة وقانونية، وأنه بريء من كل التهم التي وُجِهَت له. وهاجم في مؤتمره الصحفي الذي عقده في بيروت النظام القضائي الياباني، قائلا "إنه ينتهك المبادئ الأساسية للإنسانية"، كما دان "الأشخاص الحاقدين المغمورين" الذي يدعي أنهم تآمروا عليه. كما وعد بنشر وثائق داخلية من نيسان يقول إنها ستساعده في اثبات براءته.

أما نيسان، فتصر على أنها "اكتشفت العديد من حالات سوء السلوك ارتكبها غصن وذلك من خلال تحقيق داخلي محكم ومسهب ومُعَمَّق." وأضافت الشركة أنها توصلت إلى "أدلة لا يرقى إليها الشك على قيام غصن بالعديد من التصرفات المنافية للسلوك الحسن منها عدم الصدق في الاقرار برواتبه واساءة استعمال أموال الشركة لمنفعته الخاصة. لم تنظر أي محكمة في صحة هذه الادعاءات، ولكن مؤيدي غصن يقولون إنها توفر كمية كبيرة من الذخيرة لمجموعة رجال الأعمال المصممين على الإطاحة به.

يحتل رجل الأعمال الماليزي-البريطاني الخمسيني هاري نادا حيزا مركزيا في التحقيقات. عمل نادا بشكل وثيق مع غصن وكيلي من موقعه كنائب رئيس نيسان. ويقول عليمون في الشركة اليابانية إنه كان ينظر اليه على أنه وفيّ جدا لهما. ولكن يبدو أن ولاءاته تغيرت في عام 2018، إذ قام بنقل معلومات عن تعاملات غصن المالية إلى السلطات، ثم بدأ بالعمل معها في تحقيقاتها بعد أن أبرم صفقة معها تحميه من الملاحقة.

يدعي محامو غصن أن القضية مختلقة ومفتعلة برمتها، وأن كبار المديرين في نيسان والمحققين والمسؤولين الحكوميين تآمروا عمدا في محاولة لاجهاض أي جهد يهدف إلى تعزيز الاندماج بين رينو ونيسان. وجه غصن في مؤتمره الصحفي اتهامات إلى عدد من كبار المسؤولين في نيسان بالتآمر عليه، ومنهم مدير عام الشركة، هيروتو سايكاوا، الذي كان محسوبا عليه، وقت القاء القبض عليه.

ولكن غصن امتنع عن البوح باسماء المسؤولين الحكوميين الذين كانوا مشاركين في "المؤامرة" التي يقول إنها حيكت ضده، متذرعا بالحساسية التي اصبحت تتسم بها العلاقات بين اليابان ولبنان نتيجة هروبه. وقال في معرض اجابته على سؤال لبي بي سي، "لا أعتقد شخصيا أن مسؤولين في الصف الأول كانوا متورطين...لا أعتقد أن رئيس الحكومة آبي كان متورطا". أما سايكاوا، فقال للصحفيين ردا على ما قاله غصن إنه "يشعر بخيبة أمل إلى حد ما". وأضاف: "كان رئيسي الذي أثق به، ولكنه خاننا بقوة في المرة الأولى. والآن أشعر بأنه خانني للمرة الثانية".

نسبة التجريم 99,4 %

عبر كثيرون، ومنهم غصن نفسه، عن استغرابهم الحقيقي للفرق الشاسع بين النظام القضائي الياباني والأنظمة القضائية المعمول بها في الدول الديمقراطية الأخرى. ولكن ما كان ينبغي لهم أن يستغربوا ذلك. فأي مقيم لفترة طويلة في اليابان سيقول لك إن الشيء الوحيد الذي يقض مضجعه ازاء العيش في هذا المجتمع المسالم والودود هي السلطات الواسعة التي تتمتع بها الشرطة وجهات التحقيق الرسمية.

وهناك العديد من الروايات التي تتحدث عن حبس أجانب لثلاثة أسابيع رهن التوقيف بعد تورطهم في مشادات كلامية أو خلافات مرورية بسيطة. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن الأجانب مستهدفون، ففي حقيقة الأمر أن التوقيف لفترات طويلة دون تهم هو الوضع الطبيعي في اليابان. ويطلق منتقدو النظام القضائي الياباني عليه اسم "عدالة الرهائن".

قضى كارلوس غصن 128 يوما رهن التوقيف، ولكن هناك العديد من اليابانيين الذين أوقفوا لفترات أطول بكثير. لورنس ريبيت استاذ متخصص بالقوانين الدستورية قضى سنوات عدة في التدريس في اليابان وفي النضال من أجل إصلاح النظام القضائي هناك. يقول ريبيت: "أنظروا إلى قضية هيروجي ياماشيرو، فقد أوقف لمدة 153 يوما".

يذكر أن هيروجي ياماشيرو كان يتزعم حركة احتجاج انطلقت لمعارضة تشييد قاعدة عسكرية أمريكية جديدة في جزيرة أوكيناوا. وفي عام 2017، ألقي القبض عليه بعد أن حاول اغلاق مدخل موقع بناء القاعدة الجديدة. أودع ياماشيرو السجن الانفرادي لأكثر من خمسة شهور قبل أن توجه إليه أي تهم.

ويستطرد الاستاذ ريبيت قائلا، "ثم هناك قضية موريتومو غاكوين،" مشيرا إلى فضيحة أخرى نالت شهرة واسعة في عام 2017، مضيفا أن الزوجين المتورطين في تلك القضية حبسا لمدة 299 يوما دون أن توجه إليهما أي تهم. ويقول إن التوقيف لفترات طويلة جدا يعد طبيعيا في اليابان، مضيفا "ويخضع الموقوفون خلال فترات توقيفهم للاستجواب لمدد قد تصل إلى ثماني ساعات يوميا".

ففي اليابان، من الممكن توقيف المرء لفترة أولية أمدها 23 يوما دون أن توجه إليه أي تهمة. ولا يسمح للموقوفين في هذه الفترة الاتصال بأي أحد عدا محاميهم. وقد يخضع الموقوفون للاستجواب لساعات طويلة يوميا دون حضور محاميهم. وجهت انتقادات عديدة للنظام القضائي الياباني بما في ذلك من مفوضية حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة، ولكن وزارة العدل اليابانية لم تحرك أي ساكن لتغيير الوضع.

ففي اجتماع حضرته مؤخرا مع مسؤولين في وزارة العدل، سألتهم عن سبب رفض اليابان اعتماد نظام التوقيف المعمول به في الدول الديمقراطية الأخرى. أجاب كبير المسؤولين الذين حضروا الاجتماع بالقول "إن للاستجواب أهمية كبرى في العملية القضائية اليابانية. وتوصل خبراء قانونيون كبار إلى أن حضور محامي الدفاع جلسات الاستجواب من شأنه تقويض تقدم عملية استجواب الموقوفين، ولكن حق الموقوفين في التزام الصمت حق مضمون".

أما الاستاذ ريبيت فيقول: "ينص الدستور الياباني على أن للموقوف الحق في التزام الصمت، ولكن الواقع غير ذلك، فإن الموقوفين محرومون من هذا الحق. فالمُستَجوبون يصرخون بوجه الموقوفين ويصفونهم بالصراصير الذين يخونون اليابان. ولا يسمح للمحامين بحضور جلسات الاستجواب التي قد تمتد لثماني ساعات في اليوم لمدة 23 يوما بدون أمل بأنها قد تتوقف".

يتوافق هذا الكلام بالتأكيد مع ما يقول غصن إنه تعرض له اثناء توقيفه من ضغوط مورست عليه لاجباره على الاعتراف ومن تهديدات اطلقها المحققون بأنهم سيلاحقون أسرته إن لم يعترف. ومن نافلة القول إن جميع الأنظمة القضائية بلا استثناء تبذل جهودا كبيرة لاقناع المتهمين بارتكاب جرائم بالاعتراف، ولكن النظام المتبع في اليابان يمارس ضغوطا من أجل انتزاع الاعترافات تعد على مستوى مختلف تماما.

يقول وكيل النيابة السابق نوبو غوهارا إن المشكلة التي يعاني منها زملاؤه السابقون في النيابة العامة في اليابان تكمن في ظنهم أنهم معصومون من الخطأ. ويضيف: "يشير الناس إلى نسبة التجريم في اليابان والبالغة 99,4 في المئة فيخطئون الظن، ففي الحقيقة تسقط الشرطة حوالي 30 في المئة من القضايا التي تحقق فيها مما يعني أن 70 في المئة فقط من القضايا ترفع إلى المحاكم".

احدى الزنزانات في مركز الاحتجاز في طوكيو حيث حُبِسَ غصن

ويقول غوهارا إن وكلاء النيابة يسيرون قدما في القضايا التي يحققون فيها فقط عندما يكونون واثقين بأن الأدلة التي بحوزتهم والتي تؤدي إلى التجريم هي أدلة دامغة لا يرقى إليها الشك. ويضيف: "لذا يظن وكلاء النيابة أنهم على صواب، ولأنهم يظنون أنهم على صواب يعتقدون بأن اعتراف الموقوف أمام وكيل النيابة هو ما يجب عليه فعله. اما حضور المحامين جلسات التحقيق والاستجواب فيمنع الموقوفين من الادلاء باعترافات صحيحة".

وهذا هو سبب - حسب ما يقول غوهارا - النظرة الدونية التي ينظر بها المحققون اليابانيون إلى الموقوفين الذين ينفون التهم الموجهة لهم، وهو أيضا السبب وراء اعادة اعتقال الموقوفين في كثير من الأحيان بتهم مختلفة قليلا بعد انقضاء فترة الـ 23 يوما. عندئذ تبدأ دوامة الاستجوابات من جديد.

وليس هذا الجانب الوحيد في النظام القضائي الياباني الذي يفرقه عن بقية الأنظمة المعمول بها في العالم الديمقراطي. فكما اكتشف غصن، يمكن لوكلاء النيابة في اليابان أن يفرضوا شروطا استثنائية وغير عادية حتى عندما يفرج عن المعتقلين بكفالة. وفي حالة غصن، كان أحد الشروط الاستثنائية قرار المحكمة بحرمانه من اللقاء أو حتى الاتصال بزوجته.

تقول النيابة إن لكارول غصن علاقة وثيقة بالقضية، وكان بإمكانها مساعدة زوجها باتلاف الأدلة. وليس لدينا أي علم بالأدلة التي قدموها لتأكيد هذا الإدعاء. وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ ريبيت: "القانون الدولي واضح في هذا الصدد، فلا يجوز فصل أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم".

يذكر أن حتى المدافعين عن سلوك مكتب النائب العام في طوكيو يجدون صعوبة في تفسير القرار المتعلق بكارول غصن. ولكن وكيل النيابة السابق ياسايوكي تاكاي وجه انتقادات لاولئك الذين يقولون إنه من المستحيل أن يحظى غصن بمحاكمة عادلة في اليابان. ويقول إن طريقة تصرف الأخير في مؤتمره الصحفي الذي عقده في بيروت كان تصرف "مهرجين." ولكن عند سؤاله عما اذا كان قرار منع غصن من الاتصال بزوجته قرارا مبررا كانت اجاباته متضاربة.

قال تاكاي، "ليس صحيحا أنه لم يسمح له بلقاء زوجته لو بقي في اليابان، ولكن كان على محاميه أن يبذلوا جهدا أكبر في إقناع المحكمة. ولكنه أضاف بأنه لو كان هو المسؤول عن متابعة القضية لكان سمح لغصن برؤية زوجته. يعبّر معظم الذين تحدثت إليهم، إن كانوا يؤيدون غصن أو ينتقدونه، عن شعورهم بالاحباط وخيبة الأمل جراء قراره الفرار من اليابان.

ويقول وكيل النيابة السابق نوبو غوهارا إن هروب غصن ضيَّع فرصة ثمينة لفضح مثالب النظام القضائي الياباني. ويمضي قائلا: "أردت أن يواجه القضاء، واشارك محاميه الرأي بأنه كانت لديه امكانية قوية للفوز وأن الأدلة المقدمة ضده ضعيفة وواهية". ووصف ياسايوكي تاكاي القضية بأنها "عصية عن التنبؤ جدا"، وأنها كانت تجري بموجب "قانون جديد وغير مجرب". "ولذا فاحتمال تبرئته كبير. ولو كان غصن قد حضر المحاكمة بشكل أصولي وبيّن حجته بوضوح لكانت هناك امكانية لتبرئته. ولكنه فضّل الهرب".

ولكن نوبو غوهارا يبدو أكثر تعاطفا مع غصن، إذ قال، "كانت المحاكمة الأولى ستستغرق سنة ونصف قبل أن تبدأ المحاكمة الثانية التي كانت ستتعلق بتهم أخرى. ولذا كان ينبغي الانتظار لأربع أو خمس سنوات قبل الحصول على حكم نهائي". ويقول الأستاذ ريبيت إن مشاكل غصن القانونية لم تكن لتنتهي حتى لو فاز في الدعاوى القضائية المرفوعة ضده.

ويستطرد قائلا، "كان لغصن أفضل المحامين وكل المميزات، وكان بامكانه الفوز. ولكن في تلك الحالة كانت النيابة ستستأنف الحكم وتوصل استئنافها حتى إلى المحكمة العليا. وفي العديد من القضايا في اليابان يُطعن بأحكام التبرئة بعد استئنافها. ولذا فاعتقد أن الهروب سيكون خيار أي شخص عاقل ورشيد اذا وجد نفسه في مكان غصن".

كارلوس غصن الرجل

قال غصن بغضب واضح في معرض وصفه المعاملة التي لقيها على أيدي وسائل الإعلام في اليابان وخارجها، "وُصِفت بأني ديكتاتور طماع وعديم الشعور". فقد تعرض لانتقادات اعلامية منذ اعتقاله لنمط حياته الباذخ، والمساكن الفخمة التي كان يقطنها على حساب شركة نيسان، والحفل الباذخ الذي أقامه لزوجته في قصر فرساي بمناسبة عيد ميلادها الـ 50. وبينما لا يفتقر غصن إلى منتقدين، هبّ آخرون للدفاع عن شخصيته وخُلُقه.

قضى كارلوس غصن، الذي ولد في البرازيل لأبوين لبنانيين، معظم فترة طفولته في بيروت. وتلقى تعليمه الجامعي في كلية (أيكول بوليتكنيك) المرموقة في باريس، ثم في كلية (أيكول دي مين) الهندسية التي لا تقل رقيا، ومكّنت دراسته في هاتين الكليتين غصن من الانخراط في عالم النخبة الفرنسية المغلق.

حاز غصن على اعجاب الكثيرين نتيجة ارتقائه السريع في عالم الأعمال في شركات ميشلان ورينو ونيسان، فقد كان ينظر إليه بوصفه "رجل دافوس" المثالي، أي رجل الأعمال الناجح الذي يحب الاختلاط بزعماء العالم. ولكن حسب ما يقول فيليب رايز كاتب سيرته يمكن أن تكون هذه الانطباعات خادعة.

ويقول رايز: "كان ينظر إلى غصن دائما على أنه دخيل، ولم يستغل قط علاقاته بعالم السياسة. فقد دعي لعشرات الزيارات الرئاسية الفرنسية الخارجية، ولكنه لم يشارك في أي واحدة منها. فقد كان يرفض المشاركة في تلك اللعبة ولأجل ذلك أصبح مكروها". عرف رايز غصن معرفة جيدة عندما كان يعمل معه في اليابان في السنوات الأولى من الألفية الثانية، ويصفه بأنه رجل دمث وخلوق ومحبّب وحلو المعشر. ويبدو أنه كان يتمتع بصحبته.

جدد رايز معرفته بغصن بعد 15 سنة بعد خروج الأخير من المعتقل بكفالة في طوكيو. وقضى الإثنان أسابيع عدة في تأليف كتاب جديد. سألته إن كان يعتقد بأن شخصية غصن قد تغيرت. أجاب بالقول: "استمعت لما يقال بأنه تحول إلى ديكتاتور طمّاع، وقلت لنفسي ربما استبدت به ذاته وإنه تحول إلى شخص مختلف تماما." ولكن الحقيقة لم تكن كذلك أبدا.

قال رايز في هذا الصدد، "تغيرت الظروف، ولكنه كان نفس ذلك الرجل الذي أعرفه. الفرق الوحيد أنه كان أكبر عمرا بـ 15 سنة." كما نفى عدد من زملاء غصن السابقين ما يتردد من أنه كان مديرا مستبدا كان يخاف مرؤوسوه أن يبلغوا عن مخالفاته. قال لي أحد العليمين إنه كان بالتأكيد يضغط على موظفيه المتقاعسين، ولكنه كان أيضا يسمح بحيّز كبير من الاستقلالية للموظفين النشطين الجيدين.

أما انطباعاتي الشخصية عن غصن، والتي حصلت عليها من العديد من اللقاءات التي أجريتها معه عبر عدة سنوات، فهي انطباعات متباينة. ففي المناسبات الكبيرة، كمعارض السيارات العالمية، تعوّدت على رؤية مرؤوسيه وهم يكادون يرتعشون خوفا منه. فكان غصن يصر على أن يلتزم مرؤوسوه بكل تفاصيل الترتيبات المعدة سلفا، وكان يغضب إن حصل أي تغيير.

وكان في أغلب الأحيان مصحوبا بحاشية كبيرة تعتلي المسرح بنمط ملوكي. وكانت المقابلات الصحفية التي يجريها جادة دائما، رغم أنها كانت بلا طعم في بعض الأحيان. ولكنه كان بين الفيّنة والأخرى يفجر قنبلة اعلامية صغيرة يعلم علم اليقين أنها ستتصدر الصحف فورا.

كانت صورة غصن في أغلب الأحيان تتفق مع الصورة النمطية للمدير التنفيذي المستبد والمتعجرف. ولكن عندما التقيت به في لندن دون موعد مسبق، حضر دون حاشية تحيط به. وكان منفتحا ودودا وسعيدا بالتحدث بحرية. ولم يتحول إلى التحفظ والحذر إلا عندما بدأت الكاميرات بالتصوير. فآنئذ بدأ كارلوس غصن بتقمص دور رجل الأعمال الطموح والناجح. ولكن، وكما بيّن المؤتمر الصحفي الذي عقده مؤخرا في بيروت، يبدو أنه يتمتع بأداء هذا الدور.

ما الذي سيحصل الآن؟

استصدرت اليابان مذكرة توقيف دولية بحق غصن من الشرطة الدولية (الإنتربول)، وبدأت بممارسة الضغوط الدبلوماسية على لبنان. ولكن لا توجد اتفاقية لتسليم المطلوبين بين البلدين. وهناك عوامل أخرى ينبغي أخذها بنظر الإعتبار أيضا. فكبير مراسلي بي بي سي جون سيمبسون يشير إلى أنه "نظرا للفخر الكبير والتعاطف الواسع الذي يحظى به غصن من جانب الشعب اللبناني، فإن احتمالات موافقة الحكومة اللبنانية على تسليمه لليابان ضئيلة جدا إن لم نقل شبه معدومة".

ولكن مصادر قانونية تقول إنه قد يحاكم في فرنسا. ففرنسا لا تسلم عادة مواطنيها إلى بلدان أخرى، وغصن يحمل النوعية الفرنسية. علاوة على ذلك، يسمح النظام القضائي الفرنسي بمقاضاة الفرنسيين لجرائم ارتكبوها في دول أخرى. الأمر الذي يجعل هذا السيناريو أكثر تصديقا هو أن غصن يخضع بالفعل للتحقيق من جانب السلطات الفرنسية. وكانت الشرطة قد فتشت منزله القريب من باريس في العام الماضي في بحثها عن أدلة على ارتكابه مخالفات مالية. فشركة رينو تقول إن غصن أنفق مبلغ 11 مليون يورو على شكل مصروفات مثيرة للشكوك. أما غصن فينفي عن نفسه أي تهم بارتكاب مخالفات. ويقول خبراء قانونيون إنه يمكن توسيع نطاق هذا التحقيق ليشمل التهم الموجهة لغصن في اليابان.

ويصر مقربون من غصن على أنه سيرحب بفرصة المثول أمام القضاء. ويقول أحد هؤلاء: "إنه يريد أن يترك من ورائه إرثا ذا قيمة، ويريد أن يعيد الاعتبار لإسمه من أجل حماية هذا الإرث". ولكن يبدو أن جزءا كبيرا من هذا الإرث آخذ بالتبخر. فأرباح شركتي رينو ونيسان تدنت إلى حد كبير منذ الإطاحة به، كما تدنت قيمة الشركتين بعشرات المليارات من الدولارات. وأدت الصراعات الحادة التي نشبت في مجلسي ادارتهما إلى الإطاحة برئيسي المجلسين ومنهما سايكاوا المذكور آنفا.

ولكن التحالف بين الشركتين ما زال قائما ولو أنه يترنح. فالارتباطات البنيوية العميقة بين رينو ونيسان لا يمكن فصمها بسهولة، ولكن احتمالات تعزيز الاندماج بينهما تبدو ميتة الآن. أما غصن نفسه، فمن الواضح أن حظوظه أضعفت إلى حد بعيد، ولكنه لم يفقد الأمل في العودة إلى ما كان عليه.

فقد قال للصحفيين، "أعتدتُ على التصدي للمهمات المستحيلة، ولا أرى نفسي في موقف أعجز فيه عن فعل أي شيء، وأريد اعادة الإعتبار إلى اسمي وسمعتي". أما الأمر الذي لا ينوي كارلوس غصن فعله فهو الاختفاء في غياهب النسيان. فعندما سأله جون سيمبسون عما إذا كانت لديه نية للتقاعد، كان رده أكيدا. "كلا بالتأكيد. فما زال هناك الكثير من التحديات في المستقبل. هذا ليس الوقت للتقاعد".